جلست تقرأ فى الجريدة المسائية .. شىء يؤنسها خلال مدة ركوبها الأتوبيس من مقر عملها الى بيتها .. كانت السعادة تكسو ملامح وجهها البرىء فتزيده أشراقا وجمالا .. اليوم حصلت على أول راتب لها من عملها أحساس تتذكره جيدا عندما تسلمت أول راتب لها ..يشبه الطرب والنشوة ولذة الأحساس بالذات ..لأول مرة لن تطلب من والدها مصروفا وأخيرا سوف تخفف ولو قليلا من الأعباء المالية على والدها ...
توقف الأتوبيس فى محطة لينزل ركاب ويستقله ركاب أخرون...طوت الجريدة وجلست تتأمل حركة المرور والزحام من شباك الأتوبيس ... لفت أنتباهها أحدهم وهو يستقل الأتوبيس كان شابا أنيقا ملامحه تشى بوسامة هادئة ويرتدى بدلة سوداء وتفوح منه رائحة العطر .. هل أخطىء هذا الشاب وجهته .. مثله لا يركبون هذه المواصلات المزدحمة التى يدخلها المرء فى كامل هندامه ويخرج منها وكانه خارج لتوه من معركة ... رغم تعجبها و دهشتها الا أنها لم تشغل بالها كثيرا ..فالناس وحكاويهم تمتلىء بالأسرار والغرائب...
تابعت تأملاتها من الشباك ... ( ممكن بعد أذنك ؟؟) نظرت نحو مصدر الصوت .. انه هو الشاب الأنيق يستأذنها فى الجلوس بجوارها ... نظرت اليه دون أن تنبس بكلمة وأومأت له بأشارة بالأيجاب .. ثم بررت لنفسها موافقتها بأن المقاعد كلها مكتظة وأنه انسان رقيق يحادثها بأدب بل ويستأذنها فى الجلوس ونادرا ما تجد مثل هذه الفئة المحترمة فى شباب اليومين دول ..
جلس الشاب بجانبها .. واخذ يتابعها بدقة وينظر اليها باهتمام ... لم تقو هى على النظر اليه شعرت فقط بأنفاسه تقترب منها ... تسارعت ضربات قلبها وهمت ان تنزل من الأتوبيس قبل محطتها بمحطتين ولكنه أقترب منها فى حنان وأدب وقال ( يظهر ان طريقك تمام زى طريقى.... ) أدارت وجهها فى مواجهته وقلبها يتسارع والعجب فى وجهها وقالت (وليه حضرتك خمنت كده؟؟؟!!) قال لها فى رقة وغنج اكثر ( لأنى منذ دخلت الأتوبيس ووقعت عيناى عليكى شعرت أن قلبى قفز منى وشعرت أننا متفقين فى حاجات كتيرة ...) الدهشة التى كست وجهها أخافته بعض الشىء .. هى تسمع عن الأعجاب من اول نظرة ... الحب من أول نظرة ... اما الكلام بكل جرأة وشجاعة من اول نظرة .. فلم تسمع عنه مطلقا....
نظرت اليه بدهشة تتزايد فرأته هادئا يبتسم ببساطة ... قالت فى نفسها ( اما انه مجنون ... او انه مجنون .. لا بديل لذلك ) ... ثم نظرت اليه مرة أخرى والى هندامه متفحصة وقالت فى نفسها ( ولما لا أنا جميلة وما اكثر من كانوا يخطبون ودى ... ولكنه جرىء بعض الشىء ... وما المشكلة ؟؟ انسان صريح بمجرد أن اعجبته صرح باعجابه ... انسان - دوغرى - مالوش فى اللف والدوران ...)
نظر اليها برقة مبالغ فيها وقال لها فى همس (هل قال لك أحد انك جميلة ورقيقة جدا؟؟) نظرت اليه وعيناها لا ترمشان ثم سارعت بفتح شباك الأتوبيس لتنظر منه .... ( هل هناك حب حقيقى فى هذا الزمان ؟؟؟ وان وجد لا يمكن ان يكون بسرعة هكذا الأتوبيس لم يصل حتى الى محطتى ..) تابع هو الأقتراب منها وهى تشعر حر أنفاسه فى جبينها وخدها وقال فى همس ورقة ( من اللحظة الأولى التى تلاقت فيها عينانا شعرت تجاهك بشعور غريب ... يا آنسة ... لقد وقعت فى حبك بدون مقدمات.. فهل تقبلى الأرتباط رسميا بى ؟؟؟؟) كاد يغشى عليها ..العرق يتصفد من جبينها وعيناها زائغتان ولكنها تمالكت نفسها وقالت له فى صوت متهدج ( لم يمض على دخولك هذا الأتوبيس اكثر من ربع ساعة !! هل هى كافية للأعجاب والحب والأرتباط أيضأ؟؟؟؟!!)
اعتدل فى جلسته واتخذ وجهه الرقيق صفة الجد والحكمة وقال فى نعومة ( الحب يا سيدتى قدر .. تماما مثل الموت لا نستطيع ان نخمن وقت حدوثه ولا نستطيع رده اذا أتى ..)
بدأ قلبها يستعيد توازنه ونبضه الطبيعى واكتست ملامحها بالفرحة والأنتشاء وهى تقول فى ثقة وتحد ( ومن يدريك أننى احببتك كما أحببتنى ؟؟!!!) قال لها فى ثقة وثبات ( دقات قلبك المتسارعة التى سمعها كل راكبى الاتوبيس فضحت سرك ووشت لى بحبك...)
نظرت اليه هذه المرة بحب وارتياح ولم تحر جوابا... حاولت ان تفكر ولكنها لم تستطع ... توقف عقلها عند هذه النقطة واصبح قلبها فقط هو الذى يفكر ويحلم ويرقص بين ضلوعها ...
قاطع حفلة رقص قلبها بصوته النقى وهو يقول برقته التى اوقعتها ( كنت أود معرفة عنوان منزلكم حتى اتقدم لطلب الأرتباط من والدكم بأقصى سرعة ؟؟ ) ردت عليه فى سرعة فائقة ورقة مصطنعة بعض الشىء ( بهذه السرعة ؟؟ من دون حتى ان تعرفنى او تعرف اسمى .. ودون ان اعرف اسمك ؟؟!!)
ابتسم ساخرا وقال فى يأس ( الآن تيقنت اننى أحبك أكثر من حبك لى فأنا اريد الأرتباط بكى برغم كل شىء ومهما كنت ومن كنتى وأنتى ما زلتى تجرين وراء الشكليات والروتين الممل!!!)
نكست رأسها وهى تلوم نفسها وقالت فى أسف ( أعتذر لك لم أكن أدرى انك انسان راقى بهذا الشكل وتتمسك بى بهذا الشكل رغم كل شىء ...) قطع حديثهما الهامس صوت السائق يطالب بدفع الجرة ..همت بأخراج النقود وهو ينظر اليها بدقة ثم بادر هو بأخراج النقود ووضع يده فوق يداها وهو يقول ( ليس من المعقول ان تكونى خطيبتى وزوجة المستقبل وتدفعين اجرة اتوبيس !!!اذن فأين انا؟؟ ردى نقودك واغلقى حقيبتك ) ثم دفع لكليهما الأجرة.
سحبت يدها من تحت يده وهى ترتعش من فرط الفرحة والسعادة
وصل الأتوبيس محطتها نزلت ونزل فى اثرها ... ربت على كتفها فى رقة وهو يعطيها مبلغ اخرجه من حافظته ويقول فى شفقة( خذى هذ المبلغ اشترى به فستان جديدا ... فستانك شكله قديم شوية..) أثارتها تلك الجملة بعض الشىء واحست بتكبره عليها وصرخت به فى غيظ مكتوم ( انت فاكرنى مين ؟؟انا معايه فلوس وفلوس كثيرة . استلمت اول مرتب لى النهارده واقدر اشترى احسن الفساتين !!)
وأخرجت النقود من حقيبتها فنظر اليها وقال ( حقا .. أنا آسف يبدو معكى فلوس كثيرة .. أرينى )أخذ النقود .. وجرى نحو تاكسى ركبه وهو يقول لها ( شكرا قوى على الفلوس...تحياتى للوالد..) وطار التاكسى به
الصدمة الجمتها ..كتمتها .. لم تصرخ .. لم تنطق .. سقطت على الأرض .. والدموع تأبى ان تنزل من عينيها .. تجمع المارة .. صفق الجمهور .. أسدل الستار!!!